في واقعٍ يبدو وكأنه مفقودًا وأحيانًا مسدود، يعرض داني فيلك ودوف حنين ما يمكن فعله وكيف ينبغي القيام بذلك. أجزاء مختارة من كتابهما "ما العمل الآن"

ترجمة: سميح غنادري

لشراء الكتاب بسعر مخفّض اضغطوا على الرابط وادخلوا الرقم5221 

مقدّمة

إشعال النور في الأيام المظلمة

هذا كتاب متفائل موجّه للمتشائمين أيضًا.

تفاؤل الكتاب ليس تفاؤلًا ساذجًا. نحن لا نقصد جنة عدن للحمقى السخفاء، ونعي كليًا درامية الواقع في القرن الحادي والعشرين وأخطارها العديدة، وأنه تهبّ رياح سيئة أثناء كتابة هذا الكتاب.

السؤال الأول الذي يجب أن نواجهه هو: هل بالإمكان الحديث عن تغيير هام للأفضل في العالم الاجتماعي الذي تبرز فيه بالذات تغييرات مقلقة نحو الأسوأ؟ نعتقد أن هذا ممكن. هذا هو الادّعاء المركزي في كتابنا.

لا نتجاهل الأخطار الموجودة، ولا نقلّل أيضًا من عظمتها، ولكننا ندّعي وجود فتحات ومنافذ نحو الأفضل إلى جانب وجود الأخطار والتهديدات الكامنة. سيكون بالإمكان إحداث التغيير إذا ما أتقنا تحليل الأوضاع وأشرنا، من خلال هذا التحليل، إلى استراتيجية للتغيير. وبناءً عليه، هدفنا هنا ليس فقط التخطيط لرؤيا مبنية على التغيير الإيجابي، وإنما أيضًا الإشارة إلى طريق وبرنامج عمل بهدف دفعها وتقدّمها عمليًا.

الجمهور العربي: قيود الهيمنة مغلقة في صندوق

بعد قيام الدّولة أصبح السّكان العرب أقليّة في وطنهم من أصل غالبيّة الشعب الذين أصبحوا لاجئين. الشعب الذي كان الأغلبية في البلاد في زمن الانتداب البريطاني أصبح أقليّة مُستضعفة. في العقديْن الأوّليْن لقيام الدولة كانت البلدات العربيّة تحت الحكم العسكري. سيطرت المؤسسة الإسرائيلية على الجمهور العربي بمساعدة سياسة الحمائل وأيضًا من خلال إقامة أحزاب رعايا قامت بتأسيسها. كان من الواضح أمانة وتبعية تلك الأحزاب للمؤسسة السلطوية. دعمَ نوّاب الكنيست من تلك الأحزاب دوام الحكم العسكري على العرب الذي يتناقض كليّاً مع مصالح الجمهور الذي من المفروض أن يمثّله هؤلاء النواب.

الحزب الشيوعي الإسرائيلي "ماكي" كان القوّة السياسيّة الوحيدة في المجتمع العربي، الذي عملَ خارج تأثير المؤسسة الحاكمة. كان "ماكي" في بداية الطريق بعيدًا جدًا على أن يكون سائدًا بين الجمهور العربي. أيّد أعضاؤه في عام 1947 قرار التّقسيم الذي رفضه في حينه الشعب الفلسطيني وقيادته في تلك الأيام. ولكن رغم تأييد "ماكي" لقيام دولة إسرائيل، لاحقت المؤسسة الإسرائيلية نشطاءه وعملت كل شيء لجعل الحزب في الهوامش اللاشرعية.

أقام الحزب الشيوعي في ظلّ هذه الظروف المركّبة مشروعًا متعدّد الأبعاد، تعدّى العمل الحزبي المباشر والمتّبع. كانت احدى الفعاليّات المركزيّة له هي النّشاط الثّقافي، الفنّي والأدبي، من خلال وبواسطة صحيفة "الاتّحاد" والمجلّة الأدبيّة "الجديد". أصبحت الاتّحاد والجديد منصّات مركزيّة للمبدعين الذين نشروا بإبداعاتهم رسائل النّضال القومي والاجتماعي من أجل التّغيير، بالإضافة إلى الرّسائل الشّخصية. برزت إلى جانب فروع الحزب، فروع الشبيبة الشيوعية التي كانت في بلدات عديدة، الإطار الوحيد لتعبئة وقت الفراغ وللتعليم اللامنهجي لجيل الشباب. بدأ الحزب ابتداءً من سنة 1960 بإرسال مئات الطلاب من الشباب العرب للدراسة الأكاديمية في الإتحاد السوفييتي وشرق أوروبا، ونظّم نشاطًا سياسيًا بين الطلاب الجامعيين العرب في إسرائيل.

رأى الحزب الشيوعي الإسرائيلي أن للمجتمع العربي الذي يعاني من التمييز ضدّه، مصلحة واضحة في تغيير الأنظمة الاجتماعيّة داخل إسرائيل، وانطلاقًا من هذا الموقف عمل الحزب في تجنيد القوى لإحداث التغيير من خلال المشاركة في النضال اليهودي – العربي المشترك.

انتخابات بلديّة الناصرة، عام 1975، كانت شقّ طريق الحزب الشيوعي إلى قوّة مهيمنة داخل المجتمع العربي. أقام الحزب لتلك الانتخابات جبهة واسعة بمشاركة أكاديميين، تجار، حرفيين، طلاب جامعيين وشباب... وانتصرت الجبهة. كان لذاك الانتصار أهمية كبرى وذات تأثير على المجتمع العربي في إسرائيل.

واجهت القيادة الجديدة للناصرة، المعادية للمؤسسة السلطويّة، في بداية أعمالها معارضة كبرى من جهة السّلطات الرسميّة التي قادت إلى تفاقم الظّلم. تضييق الميزانيّات الّذي جرى فرضه على البلدية لم ينجح في منعها وردعها، بل على العكس، فقد استعملته البلديّة لتجنيد الجمهور للعمل. ردًّا على سياسة السّلطة المركزيّة نظّمت بلديّة النّاصرة مشاريع تطوعيّة كبرى لمساعدة المدينة. هكذا جرى تنظيم مخيّمات للعمل التّطوعي في كلّ صيف من العِقد الذي تلى انتخابات عام 1975. شارك آلاف الشباب في تلك المخيمات ونفّذوا أعمالًا متنوعة في تأسيس وهيكلة البنية التحتية وتحسين مظهر المدينة. إلى جانب الفائدة المرئيّة، كانت المخيمات السّنويّة نشاطًا سياسيًا – اجتماعيًا. في كلّ مساء، هناك أمسيات ثقافيّة، عروض موسيقيّة ومناقشات سياسيّة. علاوة على ذلك، تمّ تجنيد الجمهور لدعم نضال البلديّة ضد السّلطة، بواسطة إقامة لجان أحياء الّتي أصبحت تعبيرًا عن الديمقراطية المدنيّة للمدينة وأداة لتقوية وتعزيز المشاركة السياسية للجمهور.

يوم الأرض، في الثلاثين من آذار 1976، كان النّقطة الهامة الّتي أثرت على هيمنة الجمهور العربي. حدثَ يوم الأرض بعد أن أعلن الحزب الشيوعي وشركاؤه في لجنة الدفاع عن الأراضي التي تأسست في تلك الفترة عن اضراب عام في يوم الثلاثين من آذار احتجاجًا على مخطط إضافي لمصادرة الأراضي العربية في مركز الجليل هذه المرّة. ترافق الإضراب بمظاهرات غاضبة جرى في اثناءها إطلاق النار من قِبل الشرطة وقُتل ستة مواطنين عرب. ورغم هذه النتيجة التراجيدية نجح يوم الأرض في وقف موجة مصادرة الأراضي العربية في الجليل والمثلث، ومنذ يومها وحتى الآن لم تتجدد عمليات المصادرة.

حاول الحزب الشيوعي بعد الإضراب الاستثمار بجهود الاحتجاج التي جرى التعبير عنها في يوم الأرض لإقامة إطار سياسي أكثر اتّساعًا. بادرَ الحزب عشية انتخابات عام 1977 لتأسيس الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة. جبهة سياسية بمشاركة مجموعة من رؤساء سلطات محلية عربية والفهود السود بقيادة تشارلي بيطون والمجموعة اليهوديّة نشطاء من أجل السلام. اعتمدت القائمة الجبهاويّة الجديدة برنامجًا سياسيًا قائمًا على أساس الحد المتفق عليه. ويشمل ست نقاط مركزية هي: سلام إسرائيلي – فلسطيني، التزام بقضايا العاملين، الدفاع عن الديمقراطية، المساواة للجماهير العربية، النضال ضد التفرقة الطائفية، المساواة في الحقوق مع المرأة.

السنوات الّتي تلت يوم الأرض كانت سنوات رجحان وسيادة تأثير الحزب الشيوعي والجبهة على الجماهير العربية في إسرائيل، واقصاء سياسة الحمائل ولسياسة التعاون مع المؤسسة الحاكمة. وتّم تبديل السياسة القديمة بسياسة تجنيد الجمهور العربي للنضال لإحداث التغيير السياسي والاجتماعي. دخلَ إلى الحلبة الجماهيرية جيل جديد من النشطاء والمحاربين الفعّالين. وأصبح نموذج المشاركة اليهودية – العربية مقبولًا لدى المجتمع العربي ليس فقط على صعيد التمثيل السياسي القطري، وإنما أيضًا بين تنظيمات الطلاب الجامعيين وفي النقاش الجماهيري في وسائل الإعلام.

ولكن استمرار نجاح هذا المسار كان محدودًا. يعود السّبب الرّئيسيّ لهذا، حسب رأيي، إلى عدم قدرة ذاك التحوّل الجديد على اختراق الحواجز السياسيّة والإدراكية لدى المجتمع اليهودي، كما والوصول حقًا للغالبيّة في الدّولة بسبب البُعد والاختلاف الكبير بين موقف غالبيّة المجتمع الاسرائيلي ومواقف المجتمع العربي. صعّبَ هذا الأمر على الجبهة الحديث مع فئات وطبقات ذات تأثير في الوسط اليهودي. أدّى ذلك في نهاية المطاف إلى تشكيل نقطة ضعف جديّة للجبهة، لأنه لم يتم تحصيل الدّعم الواسع لمسار التغيير لدى غالبيّة المجتمع الاسرائيلي، ولم تتوفر الإمكانيّة الحقيقيّة أبدًا لإحداث التغيير. عدم مقدرة الجبهة على التغلغل داخل المجتمع اليهودي أدّى إلى عدم نجاحها في تحقيق وعدها للمجتمع العربي في أن وجوده في النضال سيؤدي إلى تغيير تقدّمي وديمقراطي في البلاد.

في سنوات التسعينات بدأت مكانة الجبهة تزعزع في المجتمع العربي. وساهمت في هذا عدّة أحداث جرت في العالم عمومًا وفي الشرق الأوسط خصوصًا، وأيضًا حدوث تغييرات في المجتمع العربي في إسرائيل، كان من بينها نموّ طبقة وسطى راسخة وأكثر قوّة. ضعْضعة مكانة الجبهة ساهمت في إضعاف وإقصاء الجمهور العربي.

الفترة الوحيدة التي أتاحت للمجتمع العربي التّأكد من أفضليات العمل المشترك مع "الغالبيّة" هي فترة حكومة رابين، عندما كانت الجبهة جزءًا من المعارضة. هذا أتاح للحكومة السعي نحو اتّفاق سلام مع الفلسطينيين. ومن هنا، كانت هذه عبرة لليمين الاسرائيلي. كما أنّ نجاح المجتمع العربي لإمالة وترجيح الكفّة في السّياسة الإسرائيلية، أزعجت اليمين وأرادوا التّغلب عليه. وهذا ما حدث حقًا، إذ وظّف واستثمر اليمين في السنوات الأخيرة جهودًا كبيرة لإلغاء الشرعيّة السياسيّة للمجتمع العربي، من أجل منع تكرار ذات الظروف التي اتاحَت تشكيل حكومة رابين.

الدّائرة المتّسعة لمعارضة الحرب

من الهوامش إلى المركز

عندما انفجرت حرب لبنان الأولى في يونيو 1982 حظيت بإجماع تام من قبل الجمهور ووسائل الإعلام وأيضًا من الجهاز السّياسي. عندما تمّ التّصويت في الكنيست على نزع الثّقة عن الحكومة الذي اقترحته كتلة الجبهة، صوّت مع الاقتراح فقط الأعضاء الأربعة لكتلة الجبهة. وامتنع عن التّصويت أو غاب عن حضور الجلسة بعض أعضاء الكنيست. ولكن غالبيّة أعضاء كُتل الائتلاف وكتل المعارضة دعموا الحكومة على حدّ سواء.

أنا شخصيًا، فكانت الحرب عقب سنة أكاديميّة مكثّفة بالنّشاطات في كتلة "كامبوس" في الجامعة العبريّة. "كامبوس" هي حركة يساريّة للطلاب الجامعيّين الّتي أدارت نضالً متواصلًا لإسقاط سلطة اليمين في نقابة الطلاب الفعاليات العديدة التي قمنا بها ضد عنف اليمين كانت على وشك الازدهار والنّجاح. ظهر مع اقتراب نهاية السنة أن المسار نحو الانقلاب اليساري في نقابة الطلاب ممهّد، إذ جرى زج كتلة اليمين في الحرم الجامعي في عزلة سياسية. حيث الآلاف من الطّلاب الجامعيين شاركوا في انتخابات نقابة جديدة وديمقراطية.

اندلعت الحرب في ذاك الوقت. وقرار التظاهر ضد الحرب منذ اليوم الأوّل للحرب لم يكن سهلًا. أوّلًا وليس آخرًا، أمرًا كهذا لم يحدث أبدًا في السّابق في إسرائيل. جرت عدة حروب قبل عام 1982 ولكن لم يحدث أبدًا أن يخرجوا للتظاهر في نفس يوم اندلاعها.

أذكر النقاش الذي جرى قبل المظاهرة في مساء اليوم الأول من الحرب في غرفة صغيرة في مساكن الطّلبة في أورشليم. حتّى بيننا نحن المجموعة الصّغيرة لنشطاء "كامبوس"، الحركة اليهوديّة – العربيّة في الجامعة، كان تردّد وتساؤل حول قرار الخروج للتظاهر.

ذهبنا للتظاهر في اليوم التالي أمام مكتب رئيس الحكومة. كنّا مجموعة مكوّنة من عشرين طالبًا يهوديًا وعربيًا. مراسل شبكة الإذاعة "ب“ أسمعَ اصواتنا في نشرة الظهر. كانت الأصوات الأولى ضدّ الحرب الّتي جرى بثّها في وسائل الإعلام. قلنا إن هذه الحرب ستكون كارثة قومية على إسرائيل وستؤدي إلى تعقيد ومضاعفة الأمور بشكلٍ خطير بِغنى عنهُ، وتعارض المصالح الحقيقيّة لإسرائيل. وحاولنا التّعبير عن موقفنا الغير مقبول بشكل يتيح حتى لمن يعارضه أن يسمعه. الزعزعة التي أصابت شركائي في سكن الطّلبة عندما سمعوا أقوالنا في تقرير الإذاعة أثبتت أن نجاحنا كان محدودًا جدًا.

بالرغم من هذا لم نتنازل عن جهودنا للإقناع بموقفنا غير المقبول. واصلنا العمل لتوسيع دائرة معارضة الحرب. وحرصنا على التّعبير عن معارضتنا للحرب بشدّة، وتجنّب العربدة والصّراعات. أطلقنا على هذا "سياسة الدائرة الواسعة". ورغم أننا كنّا في المرحلة الأولى مجموعة صغيرة وراديكالية، حاولنا أن نبني رسائلنا بشكل يجعل انضمام المزيد والمزيد من الأشخاص حولنا لدائرة معارضة الحرب دون أن يتبنوا مواقفنا الحادّة والقاطعة. هكذا اتّسعت حقًا المعارضة.

جرت مظاهرة إضافية في نهاية الأسبوع مقابل بيت سوكولوف في تل أبيب، قامت بتنظيمها لجنة للتضامن مع جامعة بيرزيت، وشارك فيها مائة شخص. وجرى تنظيم مظاهرة حاشدة بعد ثلاثة أسابيع في ساحة "ملوك إسرائيل" في أبيب بمشاركة الآلاف، بمبادرة اللجنة التي أقيمت ضد الحرب في لبنان.

شاركنا بالمقابل مع هذا في النقاشات الداخلية التي جرت داخل حركة السّلام الواسعة في تلك الايام – حركة "السلام الآن". وكان قد سادَ على الحركة في الأسابيع الأولى شعار "اسكتوا، يطلقون النار" – بمعنى لا يجوز التظاهر ضد الحرب ما دامت مستمرّة. ولكن الطابع الواسع والمجنّد للمعارضة في الدائرة الراديكالية ساعد في إقناع أشخاص من حركة "السلام الآن" أيضًا. بعد مرور أسبوع على مظاهرة اللجنة ضد الحرب في لبنان تجنّدت وأخيرًا حركة.

"السلام الآن" للاحتجاج ودعت لمظاهرة إضافية جرت هي الأخرى في ساحة ملوك إسرائيل. تمّ يومها وصف تلك المظاهرة بأنها "مظاهرة المائة ألف". وجرت في شهر أيلول من تلك السنة في ساحة "ملوك إسرائيل" مظاهرة إضافية وعملاقة بعد المذبحة في مخيمي اللاجئين صبرا وشاتيلا. حظيت تلك المظاهرة باسم "مظاهرة الأربعمائة ألف".

في ذات الوقت، كبرت حركة "يوجد حد" لمعارضي الحرب في لبنان. وارتفع عدد المعتقلين من رافضي الخدمة في الجيش من حركة "يوجد حد" إلى عشرات ومئات. أيضًا هنا لم يتم طرح رفض الخدمة في لبنان في خطابة وبلاغة راديكالية. طرحت وشرحت "يوجد حد" الموضوع بتبريرات وطنيّة، وبقلق على مستقبل الجيش. انضم لدائرة الرفض ضابط كبير هو القائد إيلي غيفع، قائد لواء المدرّعات، حيث طلب اقالته من وظيفته في أعقاب معارضته لتدهور وتفاقم الحرب.

أخذت هذه الأحداث المتراكمة دور مُعيّن في ايقاف الحرب، وأيضًا فيما بعد في الانسحاب الجزئي من لبنان في أيلول 1983. ومع مرور سنوات، ساهمت حركة أخرى، حركة "أربع أمّهات"، في الانسحاب الكامل من لبنان في سنة 2000.

في حرب لبنان الأولى، بإمكاننا رؤية تغيير في مواقف وتوجّه التيار المركزي، وفيما جرى اعتباره في حينه بأنه منطقيّ. وإذا اعتبرت الغالبيّة في إسرائيل في حزيران 1982 أن حرب لبنان فكرة ناجحة. رأى المزيد والمزيد من الإسرائيليين بعد مرور الوقت أن الحرب رسوب بلا أمل في مستنقع يُغرق مَنْ يدخله. هكذا، تغيّرت المواقف. ومن المفهوم أنه سبق هذا مسار واقع الأحداث – حقيقة أن الحرب تعقدت وسبّبت العديد من الضحايا. ولكن في ظلّ هذا الواقع كانت مساهمة لحركة المعارضة أيضًا التي نشطت بصورة منهجية لتوسيع دائرة المطالبين بوضع حد للحرب، والخروج من لبنان.

بدأت معارضة الحرب في الأيام الأولى لها في أوساط دائرة صغيرة لنشطاء راديكاليين، اختاروا هم أيضًا لاحتجاجاتهم شعارات خاطبت جمهورًا واسعًا. تحدّثنا عن أنّ الحرب غير مفيدة وما من مصلحة فيها لإسرائيل، إضافةً أنّها لن تحل المشاكل، بل ستُنتج المزيد منها، وتعارض المصلحة القوميّة الحقيقيّة. بدلًا من الانغلاق داخل ذاته عن طريق الخطاب الراديكالي، نشطت الحلقة الأولى لمعارضي الحرب للتأثير على الحلقات التي تحيطها. في نهاية المطاف نجح الاحتجاج في الانتصار وفي جعل الخروج من لبنان مطلبًا مهيمنًا.

البيئة والهيمنة: قصّة عِقد ناجح

"بالتّأكيد لن تكون حديقة في أيلون" – هذا ما أعلنه القائم بأعمال رئيس الحكومة إيهود أولمرت، في الاجتماع الذي عُقِد في جامعة تل أبيب في كانون الأوّل عام 2005. وأضاف: "لن تقوم حديقة لأنه لا توجد قاعدة اقتصادية لها، وتقف من ورائها خطاب فارغ يدعي للغضب!".

بعد مرور ثلاث سنوات عن هذا الكلام، بدأوا بناء الحديقة، وانتصر النّضال الجماهيري الذي أداره نشطاء البيئة والمناخ ضد رؤوس العقارات، الذي نفى أولمرت حتى وجوده في النقاش عن الموضوع.

كنتُ في تلك الأيام رئيسًا للمنظمة العامّة التي تشمل منظمات البيئة في إسرائيل. وهي إطار يُوحّد عموم جمعيات ومبادرات البيئة في البلاد في مواجهة مالكي العقارات. قررّنا عدم الاكتفاء بحملة خضراء كلاسيكية. أجرينا اتصالات مع لجان بعض الأحياء في جنوب تل أبيب، وبلورنا معهم مشاركة نضالية حول الفكرة بأن أحياء الجنوب بحاجة إلى منتزه متحضّر، تحيط به وتحتضنه حدائق مثل "هياركون" المجاور لأحياء شمال المدينة.

انتهت حملة أصحاب العقارات بالفشل. تجنّدْ أحياء الجنوب لإقامة الحديقة، رجّحت كفّة الميزان لصالحهم. وبمساعدة مجموعة الضغط للبيئة في الكنيست، دفعنا الحكومة نحو الموافقة على إقامة الحديقة التي جرت تسميتها فيما بعد "حديقة أريئيل شارون".

أذكرُ ظهور أولمرت في اجتماع عُقِد عام 2005 لسبب آخر. كان ذاك اجتماعًا شاركتُ في تنظيمه بصفتي رئيسًا لبرنامج العدالة البيئية في كليّة الحقوق في جامعة تل أبيب. كان عنوانه "الأرض"، المال، السلطة". افتتح أولمرت كلامه بسؤال: ما هي العلاقة بين الكلمات الثلاث الظّاهرة في العنوان؟ ادّعى أن هذا "عنوان فارغ" وهو "دمج استفزازي" و "خطاب مستنزف وأضحوكة يقوم بها أشخاص لا يفهمون عمّا يتكلمون".

بصفته يومها وزيرًا مسؤولًا عن الانتاج القومي وعن مجال العقارات، وعلاوة على أنّه رئيسًا سابقًا لبلدية أورشليم، اقترح أولمرت علينا تجاهل "الشعارات التي تختبئ من ورائها الرغبة بالشهرة الإعلامية، بدلًا من التحليل الجدّي، وأن نبدأ في الحديث عن الموضوع". وبعد مرور 11 عامًا على هذا الكلام دخل أولمرت إلى السجن بعد إدانته في قضية "هزيرع"، الشركة التي حاولت تعجيل تنفيذ مخططات البناء على أراضي حديقة أيلون.

نشاطات وأعمال حراك البيئة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مثالًا إضافيّ عن نجاح النّضال من أجل الهيمنة. أصبح حراك البيئة في ذاك العقد قصة نجاح، وبالإضافة لحديقة شارون التي أُقيمت بجانب تل أبيب، جرى عرقلة خطة "سفدي" في جبال أورشليم. تحقق ذلك في الحالتيْن بفضل النضال الجماهيري ضد مبادرات لعقارات كبيرة. وفي إطار النضال للحفاظ على عقارات الشطوط، انتصرت المبادرة لسن قانون المحافظة على شواطئ إسرائيل في سنة 2004. وهنالك عدة نضالات أخرى الّتي انتصرت. ساهمت هذه الموجة البيئية في سن قوانين ابتداءً من سنة 2007. مثلًا: قانون الهواء النقيّ، قانون "مَنْ يلوّث، يدفع"، قانون الحفاظ على البيئة، قانون الشفافية والعلنية فيما يخص البيئة وعدّة قوانين أخرى.

هنا أيضًا، وعلى ضوء تطوّر نظرة العالَم فيما يخصّ حراك البيئة، زادت المساهمة في النضال من أجل الهيمنة، النظرة الكلاسيكية للدفاع عن الطبيعة في مواجهة التقدم، والتصورات العاطفيّة والحنين إلى الماضي التي ميزّت حركات البيئة في بدايات طريقها، أخلت الطريق لمفاهيم بيئيّة – اجتماعيّة شاملة. هذا الخطاب باشر باكتشاف المتضررين من المشاكل البيئيّة، وأجاد في الوقت نفسه الإشارة إلى الذين يسبّبون الإصابات. هم هؤلاء الذين يبادرون لتحقيق مصالحهم الاقتصادية الصّغيرة على حساب البيئة والصحة.

نجحت حركة البيئة عندما بدأت الحديث عن الانسان، وليس فقط عن الورود والأشجار. أدركت أيضًا كيفيّة الدمج بين تنوّع الأصوات المتنوّعة والمنفصلة للمنظمات المختلفة، ومن ثمّ جمعها في جوقة واحدة مترابطة ومتداخلة توصل نغماتها لآذان الجمهور الواسع. هكذا نجحت على عدّة مراحل في مواجهة حقل الهيمنة وتحقيق مكاسب على أرض الواقع. في عام 2008 أُتيحت الفرصة لإلقاء نظرة على مدى قوّة الأجندة البيئية – الاجتماعية في تل أبيب.

ترجمة: سميح غنادري

لشراء الكتاب بسعر مخفّض اضغطوا على الرابط وادخلوا الرقم5221