يشرح أوري فلطمان لماذا تبع الشباب بيرني ساندرز ولمَ يكمن المستقبل بالاشتراكيّة تحديدًا

في بادئ الأمر، بدت الانتخابات التمهيدية في الحزب الديمقراطي الأمريكي واعدة للغاية بالنسبة لعضو مجلس الشيوخ الاشتراكي بيرني ساندرس: بدأ ذلك بضجيجٍ صاخبٍ في ولاية أيوا، بها نال أكبر عددٍ من الأصوات من بين جميع المرشحين.  بعدها بأسبوع، في ولاية نيو هامشير، حيث اعتمد فوز ساندرس وبقوّة على إخراج النّاخبين الشباب لصناديق الاقتراع. في ولاية نفادا كذلك، حقّق ساندرس فوزًا ساحقًا، بما في ذلك بسبب دعم ثلثيّ النّاخبين دون سنّ ال-٣٠. خلال الأسابيع التي تلت هذه النجاحات، إلى جانب الفوز بالانتخابات التمهيدية في ولاياتٍ عدة - واجه ترشيح ساندرس الكثير من العوائق، إلى أن أعلن عشية عيد الفصح عن تنحّيه عن خوض الانتخابات الرئاسية الأمريكية كمرشح الحزب الديمقراطي. رغم حقيقة انتهاء مرحلة الانتخابات التمهيدية، ليس بفوز ساندرس، يهمنا نحن الاشتراكيون تحليل أنماط التصويت العمريّة التي امتاز بها ترشيحه وإدراك إسقاطات ذلك على مجتمعنا وعلى إمكانيّات التنظّم من أجل تغييره.

كانت قد أشارت التوقعات واستطلاعات الرأي إلى دعم الشباب الأمريكيّ لساندرس أكثر من أيّ مرشّحٍ آخر. في استطلاعٍ نُشر يومًا قبيل الانتخابات التمهيدية في أيوا، ظهرت صورة شيّقة: بأواسط المصوّتين من الفئة العمرية ١٨-٤٩ تقدّم ساندرس الاشتراكي البارز، مع ٣٩ بالمائة من مجمل أصوات المشاركين بالاستطلاع، على مرشح الوسط الليبرالي جو بايدن، والذي حاز بدوره على ٧ بالمائة من الأصوات. بالمقابل، بأواسط المصوتين بعمر ٦٥ انقلبت الصورة - إذ تقدّم بايدن مع ٣٧ بالمائة من الأصوات، على ساندرس الذي حاز على ٩ بالمائة فحسب. بانتخابات يوم "الثلاثاء العظيم" كذلك، في الولايات التي فاز بها ساندرس - يعود الفضل بذلك للمشاركة والدعم الواسعين من قِبَل الناخبين الشباب. حتى في الولايات التي خسر بها، تعدّت نسبة الداعمين له من الشباب نصف مجمل الأصوات من الفئة العمرية هذه.

هل علينا أن نتفاجأ من العلاقة الوطيدة التي تربط بين أعمار النّاخبين وميولهم السياسية؟ ليس حقًا. معطيات شبيهة يمكننا ملاحظتها بالانتخابات العامة البريطانية التي انعقدت في كانون الثاني-ديسمبر من عام ٢٠١٩، حيث شكّلت الفئات العمرية المؤشّر الأبرز لأنماط التصويت: كلّما كانت الفئة أصغر عمرًا - تراجع الدعم للحزب المحافظ وازداد لحزب العمّال برئاسة جيرمي كوربين، والعكس صحيح - مع انتقالنا للفئات العمريّة المتقدّمة، ازداد الدعم للمحافظين وتراجع حزب العمّال برئاسة كوربين. على سبيل المثال، بأواسط الفئة العمرية الأصغر من الناخبين (١٨-٢٤ عامًا) تعدّت نسبة الدعم لحزب العمّال نصف مجمل الأصوات لهذه الفئة (٥٦%) بينما كانت نسبة الداعمين للمحافظين هي الأدنى على الإطلاق (٢١%)، والعكس صحيح كذلك - بأواسط الفئة العمريّة الأكبر من بين الناخبين (٧٠ عامًا فما فوق) سجّل الدعم لحزب العمّال نسبةً هي الأدنى (١٤%)، بينما حظي المحافظون بأكثر من ثلثيّ أصوات الفئة العمرية هذه (٦٧%).

هناك من يدّعون أن سبب هذه الفجوات يعود للتعامل المختلف بين الشباب والمسنّين مع قضايا تخصّ الهوية: يُقدَّر أنّ الشباب هم غالبًا أكثر دعمًا للنسويّة، أكثر تسامحًا مع مجتمع الميم، أقلّ تخوّفًا من المهاجرين واللاجئين، ولذلك فإنهم يميلون أكثر لدعم مرشحين وأحزاب يساريّة عوضًا عن اليمينية. هذا التفسير الجزئي هو صالح وسليم، ولكنّه غير كافٍ.

لبّ الحديث يدور حول التجربة الحياتية المختلفة من الناحية الاجتماعية-الاقتصادية بين معظم الشباب (الذين وُلِدوا وكبروا في سنوات الألفين، التسعينيات، الثمانينيات وأواخر السبعينيات)، وبين من وُلِدوا وكبروا في العقود التي سبقتها.

في الدول التي وضعت مع انتهاء الحرب العالمية الثانية ترتيبات رفاهية، والتي تم الحفاظ عليها وتمكينها بفضل النسبة العالية من القوة العاملة المنظَّمة في حينه (ومع كل الفروقات ما بينها، يمكن إدراج الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، بالإضافة لإسرائيل، ضمن هذه الدول) - عاش الناس حياتهم مقتنعين بأنها على الأغلب ستكون أفضل من حياة الجيل السابق، أي جيل والديهم - أنهم سيعيشون بأمانٍ وظيفيٍّ إلى حدٍ ما، في الغالب لن يضطرّوا لتبديل مجالات عملهم لمراتٍ كثيرة خلال حياتهم، لربّما قد يتمكنوا من شراء شقة أو يحالفهم الحظ بالفوز بإسكانٍ عام، ذلك بالإضافة إلى قيام إسرائيل وبريطانيا في حينه بتوفير الكثير من الخدمات بالمجّان أو بمقابل متساوٍ لكلّ فردٍ (أمور ندفع ثمنها اليوم، كالمقابل الذي ندفعه لتلقّي الخدمات الصحية)، قبل أن تبدأ الحكومات بخصخصة دولة الرفاه.

على خلاف الجيل الذي وُلِد بعد الحرب العالمية الثانية، جيل شباب يومنا هذا لن يحظى على الغالب بفرصة شراء بيت. هذا الجيل يئنّ من ارتفاع أسعار التأمينات الصحية المكمّلة والحضانات الخاصة للأطفال. هذا جيل هُمِّش به الأجر الواقعي على مدار أعوام، في ظلّ انعدام النقابات المهنية القوية الاي بإمكانها المواظبة على المطالبة برفعه بين الحين والحين. هذا جيل يواجه ممارسات مسيئة لم يواجهها الجيل السابق، والتي تحولت لممارسات روتينية اعتيادية متّعة في سوق العمل - كالتشغيل بالمقاولة بواسطة شركات قوى عاملة، أو تشغيل عمّال لسنوات بنفس مكان العمل والتعامل معهم "كعمّال مؤقتين" ودفع أجرهم للساعة حسب ورديّات عملهم.

واقع الحياة هذا يناقض الرواية التي يقصّها النظام الرأسمالي على الشباب: يقولون لنا إننا سنكبر، ندرس ونحصل على لقبٍ جامعيّ، نعمل في مكان عملٍ منظّم، وكل شيءٍ سيكون على ما يرام. وإذا بنا نكبر، البعض منّا يدرس ويحصل على ألقاب أكاديمية، نخرج لسوق العمل، وفجأة نكتشف أن ليس كل شيءٍ على ما يرام؛ أنه حتى لو عملنا بمكان عملٍ منظّم - عندها أيضًا، ببساطة من الصعب إتمام الشهر.

لذا، عند ظهور حركات يسارية بالحقل السياسي توجّه أصابع الاتهام للرأسمالية الليبرالية الجديدة وتطالب بتغيير المسار (إعادة بناء منظومات الرفاه التي تمّ تفكيكها، تمكين العمل المنظم، وعرض أفق لمجتمعٍ اشتراكيّ يستتر خلف الرأسمالية) - الشباب هم أول من يرون بحركات كهذه أطرًا تعبّر عن مصالحهم، تتحدث بلغتهم، تلبّي احتياجاتهم، تعي ضائقاتهم وتقاسمهم الأمل. لم يخاطب كل من جيرمي كوربين وبيرني ساندرس الناخبين الشباب لأنهم يشبهونهم بالشكل الخارجي (كان ساندرس أكبر مرشّح خاض الانتخابات التمهيدية بالحزب الديمقراطي، وكان كوربين أكبر مرشّح من بين كل رؤساء الأحزاب بالانتخابات البريطانية)، بل فعلا ذلك عندما قدّموا برنامجًا انتخابيًا يروي قصة جيل الشباب.

يتوجب التنويه إلى أن هذه العملية لم تكن تلقائية أبدًا. تدوين برنامج انتخابي ناقد لليبرالية الجديدة لم يشكّل ضمانًا لإخراج جماهير غفيرة من الشباب لصناديق الاقتراع. هناك العديد من الأحزاب، في البلاد كذلك، التي تعرض برنامجًا انتخابيًا اجتماعيًا، ولكنها مع ذلك لا تنجح بجعل الشباب يرون بها أطرًا تناسبهم. يتطلب النجاح بترجمة كتلة اجتماعية لقوة سياسية المرور بخطوات عدة، والتي لا تشكّل أي منها لوحدها شرطًا كافيًا، ولكنها تشكلّ معًا - حسب تقديري الشخصي - شرطًا ضروريًا للنجاح بالمهمة.

أولًا، يتطلب الأمر ابتكار لغة سياسية جديدة. لم يحاول ساندرس كسب تأييد داعمي الحزب الديمقراطي فحسب، ولم يعرّف كعدو كل من دعموا الحزب الجمهوري. عوضًا عن التصنيف الأفقي، على محور ليبراليين/محافظين ويسار/يمين، اقترح ساندرس تصنيفًا عاموديًا - هناك من هم بالأسفل (وهم الأغلبية الكبرى من المجتمع الأمريكي، مئات الملايين من القوى العاملة وعائلاتهم الذين يصبّ بصالحهم تغيير المجتمع، الاقتصاد والسياسة من جذورها)، وهناك من عم بالأعلى (قلّة فاسدة، صغيرة، ثريّة وتزيد من ثرائها، أصحاب ثروات يكسبون من الوضع الراهن ومعنيّون بالحفاظ عليه كما هو). عملية المخاطبة هذه، المرتكزة على الفكر اليساري الشعبوي، مكّنت ساندرس من التحدث ليس كممثل أقلية مهذبة تدعي الفوقية الخلقية وتسخر من الأغلبية الأقلّ تنوّرًا وانفتاحًا منه ومن مناصريه، كما وليس كممثل عن معسكر يحوي نصف الناخبين مقابل معسكر يحوي النصف الآخر، بل الظهور كمندوب عن الشعب بأكمله، على مختلف أطيافه وشرائحه، أمام النخبة المتربعة على سدة الحكم.

ثانيًا، تتطلب المهمة خلق هياكل تنظيمية ملائمة. خطوات سياسية بعيدة المدى، كتك التي لا تطالب بتغييرات شكلية بل بتغيير موازين القوى في المجتمع بين العمل ورأس المال، بين الشعب والنخبة، لا يمكنها الاعتماد فقط على شخصية قيادية كاريزماتية وعلى إعلانات بارعة في شبكات التواصل الاجتماعي، إنما هناك حاجة ملحة لإيجاد أداة استيعاب يمكنها احتواء وتوظيف الطاقات الموجودة وتنظيم الناس للنشاط للمدى القريب والبعيد. في بريطانيا، على سبيل المثال، كان هذا حزب العمّال، الذي تدافع إليه عشرات آلاف الشباب لدعم كوربين وبهذا جعلوه الحزب السياسي الأكبر في أوروبا، وحركة "مومنتوم" التي عملت بإطار حزب العمّال على تنظيم الأشخاص داخله حول المشروع السياسي بقيادة كوربين. ترشيح ساندرس تمتّع هو الآخر بهياكل تنظيمية شبيهة، من بينها حركة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا، المكونة من ٦٠،٠٠٠ عضوًا، والتي تجندت لحملته الانتخابية، شكّلتها وتشكّلت منها. حظي ترشيح ساندرس بدعم العديد من الحركات التقدمية الأخرى، يشمل ذلك حركات عرفت عن نفسها علنًا بكونها حركات شبابية - منها Sunrise Movement المعروفة بعملها على تنظيم الشباب للنضال بقضايا مناخية، وحركة IfNotNow التي تنظم الشباب اليهود-الأمريكان ضد الاحتلال الإسرائيلي ومن أجل السلام والعدالة للفلسطينيين وللإسرائيليين.

هذا وتلعب النقابات العمالية المهنية دورًا خاصًا، والتي - على الرغم من المسّ بالعمل المنظم على مدار عقودٍ مضت - لا تزال تشكّل أحد أبرز وأكبر أشكال التنظيم الجماهيري الموجودة. يصعب تخيّل نجاح حملة ساندرس ببناء القوة الداعمة له لولا دعم النقابات المهنية كاتحاد الممرضات مثلًا. في إسرائيل، هناك دور هام ومركزي للنقابات من أجل إنجاز خطوات مجتمعية تقدمية - نقابات مثل قوة للعمال أو نقابة العاملات الاجتماعيات في الهستدروت، التي تشكّل تنظيمات حاشدة تحوي الكثير من الأشخاص من مختلف شرائح المجتمع.

أخيرًا، يتطلب الأمر إدراك جماعة كبيرة ومنظمة من الناس لكون هذه المهمة مهمّته، والسعي لإتمامها - ترجمة الطاقات الكامنة في المجتمع، بسبب التناقضات الموجودة داخله، لقوة حاضرة بالساحة السياسية تنجح بالتأثير وبصنع التغيير - هذا أمر لا يحدث بشكلٍ عفويّ. مطلوبة إذًا قيادة جماعية - ليس قيادة فردية، بل مكونة من عشرات ولاحقًا من مئات - يدركون جميعهم أن عملية الترجمة هذه هي المهمة الأهمّ الملقاة على عاتقهم، وأن نشاطهم وجهودهم مصوّبون نحوها ليس عبثًا، بل بشكلٍ ممنهجٍ ومقصود.

ليس من السهل القيام بكلّ هذه الأمور، خصوصًا إن  قيّدنا أنفسنا بالنشاط فقط من داخل الأطر السياسية التقليدية (كالأحزاب المتواجدة في إسرائيل، مع مشاكلها الهيكلية المعروفة)، التي اعتادت على القيام بما هي معتادة على فعله منذ أعوام طويلة، ومن الصعب جدًا جعلها تعمل بطرقٍ مغايرة. ولكن ثمة من ينجحون بالسير بهذا الاتجاه، وبيرني ساندرس هو أحدهم. تجربته وخبرته، تجربة الحركة التي ترأسها، وتجارب آخرين مثله حول العالم - كلها أمور علينا أن ندرسها ونحللها في حراك "نقف معًا"، ليس من وجهة نظر أكاديمية، وكأننا ننظر للأمور بحيادية من بعيد، إنما من نظرة نشطاء سياسيين، الذين تقع على عاتقهم مهمة تنظيم الناس وبناء القوة القادرة على إحداث تغيير جذريّ في مجتمعنا.