تأخذنا أفيراما جولان إلى ما خلف البحار لترينا كيف كان بالإمكان التعامل بشكلٍ مختلفٍ مع الأزمة الاقتصادية (تلميح: ليس كما يفعل قسم الميزانية هنا)

فاجأت أزمة الكورونا معظم قادة العالم الغربي بينما هم غافلون داخلون في حالةٍ من السبات واللا مبالاة. عدا عن رؤساء حكومات الدول الأسكندنافية والاشتراكيين الذين فازوا مجددًا بالانتخابات في إسبانيا والبرتغال، معظم القادة في أوروبا، بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية هم بأحسن حال يمينيّون مناصرون لنظرية اليد الخفية والسوق الحرة (وبطبيعة الحال تربطهم علاقة قوية بأصحاب الثروات، بل وأحيانًا هم مرتبطون بهم)، وبالحال الأسوأ هم شعبويّون-يمينيّون، ليبراليون جدد عديمو المسؤولية تجاه المجتمع والمواطنين (وبالطبع مرتبطون بشكلٍ مطلق بسلطة المال ومصالحها). جميعهم تخصصوا بابتكار شعارات فارغة كشفت عن مزيج مقلق من الجهل مع انقطاع كامل عن المجتمع الذي يعيشون به.

النظام الذي قادوه - خصخصة واسعة ومتتابعة، تقليص حادّ بالخدمات العامة ونقل الموارد لجهات خاصة متمكّنة ماديًا - هو سيء للمواطنين، سيء للثبات المجتمعي وسيء للديمقراطية. في الفترة الأخيرة، اختلّ هذا النظام مرارًا، ولكنّه لم يسفر إلّا عن ضربة خفيفة في الجناح. مع انعدام بديلٍ جدّيّ وقيادة معارضة مقنِعة، حتّى لو يتمتعوا بالشعبية الكافية، فإنهم يحظون بالاستقرار. في بريطانيا، صعد بوريس جونسون على أنقاض حزب العمّال المنقسم. في فرنسا امّحى الحزب الاشتراكي العريق وحظي فرانسوا مكرون، السياسي الزائف عديم الخبرة وذو الرؤية الضيقة، بدعم الناخبين الليبراليين من اليسار ومن اليمين "الناعم" الذي شُلَّ تمامًا عقب صعود الفاشية الوحشية التي امتازت بها مارين لوبان.

في اليونان خدم انقسام اليسار كيرياكوس ميتسوتاكيس، رجل الأعمال الشعبي ابن النخبة السياسية المعتبرة والعريقة من حزب اليمين نيا ديموكراتيا. ميتسوتاكيس، الذي درس في الولايات المتحدة الأمريكية وعمل في بنك تشيس بلندن وفي صندوق ماكنزي، هو محافظ تقليدي. تذكر له المؤسسات المالية الأوروبية بإعجابٍ كبير حقبة تولّيه منصب وزير الإصلاح بحكومة أدونيس ساماراس، والتقليصات القاسية التي فرضها بالقطاع العام. حين انتُخِب، نشر المعهد الأمريكي اليميني المتطرف "جيتسون" مقالة بعنوان "حكومة اليونان تصلح أضرار سنوات الحكم الاشتراكي". الحقيقة، بالطبع، مختلفة تمامًا عن ذلك. ميتسوتاكيس ورث عن حزب سيريزا - الذي ركّب الحكومة خلال ولايتين سبقتا الانتخابات الأخيرة عام ٢٠١٩ - خزينة عامة ممتلئة، كانت قد مكّنته من المباشرة بتنفيذ سياسته بوضعٍ جيّد.

وعندها فوجئت اليونان بضربة مضاعفة. في تشرين الأول-أكتوبر، فتح أردوغان وألقى بعشرات آلاف اللاجئين اليائسين إلى جزر بحر إيجة (والتي كانت قد بدأت لتوّها بالانتعاش من موجة اللجوء السابقة) وإلى المناطق الجبلية الشمالية، ولم يمضِ منذ ذلك الحين الكثير من الوقت حتّى أجبر تفشّي الوباء الحكومة على فرض إغلاقٍ تامّ على الدولة. ما من مصالحٍ تعمل، لا مدارس مفتوحة، والأسوأ من كلّ ذلك - ماتت السياحة. بالنسبة لليونان، التي قد بدأت تطوف للتّو فوق الماء وتلمس إمكانية تحقيق الاستقرار الاقتصادي-الاجتماعي المرجو، فإن تضرّر كلّ من السياحة، سوق العمل والحركة البحرية والجوية من شأنه أن يكون كارثيًا.

في فرنسا تبدو الأمور أقلّ صخبًا، ولكن خلف هذه الصورة تختبئ مشاكل حارقة. في العام الماضي تعامل مكرون بشكلٍ سيءٍ للغاية مع أزمة عميقة كانت قد هدأت مؤقتًا، ولكنها بقيت مشحونةً باحتمال التسبب بانفجارٍ ضخم: السترات الصفراء قد لَوَت ذراعيه. رغم تجاهل الإعلام الإسرائيلي للإضراب والنضال اللافت وغير المتهاون الذي خاضته النقابات العمالية في الخريف الماضي، إلّا أن ثمّة إضراب دام هناك لمدّة شهرٍ بأكمله، وأسفر عن شلّ المواصلات والخدمات العامة حتّى في خضمّ الاحتفال بعيد الميلاد ورأس السنة الجديدة. عقب هذا الإضراب اضطرّ مكرون للتراجع عن الخطة الإصلاحية لجيل التقاعد، والتي كان قد باشر بها بضجّة كبيرة ودون إدارة أي مفاوضات بشأنها مع التنظيمات والنقابات العمالية، وإرجاعها للدرج.

كما قد ذُكِر، شكّلت هذه الأزمة نقطة بداية للنزاع ما بين الطبقة المضطَهَدة من جهة والنظام الثري، الشبعان والمنقطع عن الواقع من جهةٍ أخرى، ومؤشرًا لعدم قدرة فرنسا على التخلص من البيروقراطية المعقدة التي تقف عائقًا أمام تطوّر الملايين من الشباب. الفجوات العبثية بين الأغنياء والفقراء، انتشار البطالة بالأساس بأواسط الشباب خرّيجي الجامعات، إلحاق الضرر بالزراعة والتي لطالما كانت القلب النابض للجمهورية، التوترات العرقية وتصاعد الجريمة والمخالفات القانونية في الضواحي - جميع هذه العوامل تشكّل معًا تهديدًا جدّيًا على الاستقرار الديمقراطي وعلى التماسك الاجتماعي.

في بريطانيا، لم تُعرَف بالكامل بعد تبعات الزلزال الذي بدأ في المملكة لحظةً قبل تفشّي الوباء. لا تزال عملية الانفصال عن أوروبا في مراحلها الأولى، ولم يتضح بعد حجم الأضرار التي من المتوقع أن تلمّ بالاقتصاد والمجتمع البريطاني. على أيّ حال، سنوات تولّي اليمين للحكم مسّت بشدّة بدولة الرفاه الفاخرة التي قامت ما بعد الحرب العالمية الثانية، ذلك مرورًا بعملية الانفصال السخيفة عن الاتحاد الأوروبي منذ لحظة استقالة رئيس الحكومة كاميرون، والتي تخللتها حقبة تريزا ماي وانتهت بالقرار النهائي بهذا الشأن بعهد جونسون. عملية انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكزيت) كشفت عن مدى الانقسام، التفتت والإرهاق الذي ألمّ بالمجتمع البريطانيّ أكثر من أيّ وقتٍ مضى.

لم يكن أيٌّ من أولئك القادة الثلاثة مستعدًا لمواجهة الوباء. هذا وقد بات واضحًا أن سعي الثلاثية هذه لإضعاف وخصخصة البنى التحتية العامة أثبت فشلها وتلفها. سارع ميتسوتاكيس لإغلاق العيادات العامة التي افتتحها حزب سيريزا بجميع المدن، البلدات والقرى بالضواحي (والتي شملت بغالبيتها أسرة علاج مكثف)، وذلك ضمن الخطوات التقليصية الأولى التي قامت بها حكومته الجديدة. استقبلت بريطانيا الوباء بجهاز صحّي عام ضعيف، واهن وفقير. آمن جونسون وأعوانه المفكرين الليبراليين الجدد بضرورة خصخصة الجهاز الصحي العام، وكأنه لم يكن كافيًا التقليص الذي امتدّ لسنوات بالميزانيات وبالموارد البشرية لل-NHS.

ولكنّ الوباء قلب جميع الموازين. رؤساء الدول الثلاثة هؤلاء، ومعهم بيئتهم السياسية والمهنية كذلك، تصرفوا بخلاف كل التكهنات. دون الاعتراف بذلك، توجه كل منهم للاعتماد على أسس وقيم دولة الرفاه.

في الأسبوع الثاني لتفشّي الوباء في بلاده، توجّه مكرون للمواطنين بخطاب رزين ينبعث منه الأمل والتفاؤل. وعد بخطابه بتحمّل الدولة مسؤولية عدم تضرّر أي مواطن من الأزمة، والتزم بالتوجه لقيادة الاتحاد الأوروبي للمطالبة بالتعاون ما بين الدول المتقدمة. أغلقت المدارس أبوابها إلا أن التعليم عن بعد سرعان ما بدأ بالعمل؛ تلقّى العمال الأجيرون الذين أُخرِجوا لإجازة قسرية فورًا ٨٠% من دخلهم. تمّ تطبيق البند القانوني الذي يمنع مؤجّري البيوت من إخراج مستأجرين يصعب عليهم تسديد الأجرة في أشهر الشتاء بدءًا من آذار-مارس وحتّى إشعارٍ آخر. هذا ولم يقع العبء على المؤجرين، والذين غالبًا ما يكونوا في فرنسا شركات تأمين كبيرة. تبيّن لاحقًا من الخطوات التي تم اتّباعها أن الحكومة هي من تكبّدت الخسائر هذه.

لم يبتكر مكرون شيئًا بالحقيقة. يرى الدستور الجمهوري الدولة مسؤولةً عن رفاه المواطنين، ذلك رغم كون التفسير لهذه المسؤولية مختلفًا عن المسؤولية حسب مفهوم الاشتراكيين. هو كذلك لم يلغِ الإصلاحات التقشفية الكثيرة التي كان قد أعلن عنها في العام الماضي، ولكن من الواضح للغاية أنه يعي أن الطريق الوحيد للتعامل مع الأزمة يمرّ عبر التوسيع وتحمل المسؤولية. أوليفييه فور، السكرتير العام للحزب الاشتراكي، وصف الأمر بدقّة في مقابلة ل-"لا فيغارو": "كشف مكرون عن حسنات دولة الرفاه"، قال، وأضاف أنه يأمل أن تحتل هذه القيم موقعًا مركزيًا مستقبلًا، وأن يحيد الرئيس عن إصلاح جيل التقاعد.

في مرحلةٍ لاحقة أعلنت حكومة فرنسا عن وسائل إضافية، تجبر الحكومة على تكبّد خسائر مواطنين ومصالح تجارية:

دعم مادّي لعمّالٍ مرضى وذويهم. تغطية كاملة للإجازة المرضية، دون اشتراك المشغّلين، لعمّالٍ اضطروا على البقاء في البيت مع أبنائهم. المساعدة بالتعامل مع احتياجات العناية غير المتوقعة: أولياء أمور تأذوا من إغلاق المدارس أو من الحجر الذاتي يحظون بإجازة مرضية مدفوعة مستحقة بحال لم تتاح لهم إمكانية إيجاد طرق بديلة للعناية أو للعمل، كالعمل عن بعد على سبيل المثال. إبقاء بعض المدارس ومراكز علاجية للأطفال مفتوحة مع طاقم مصغر، بهدف رعاية أبناء العاملين بأماكن توفّر خدمات حيوية. دعم مادي للعمّال الذين فقدوا عملهم وللمستقلين: إنشاء صندوق تضامن للشركات الصغيرة. تقديم الدعم الكامل للمصالح التجارية الصغيرة جدًا، للعاملين المستقلين وللمبادرين الذين يواجهون تراجعًا حادًا بدورة مدخولاتهم. يواصل العاطلون عن العمل تلقّي الامتيازات ولا تُحتَسب مدة الحجر الصحي في حساب استحقاقهم لمخصصات البطالة. دفع رواتب للعمّال عن طريق مقاولين حتى الانتهاء من المهمة، كما كان مخططًا من البداية، حتى لو لم يتمكنوا من العمل بسبب إجراءات الحجر.

في اليونان، أعلن ميتسوتاكيس عن عدة خطوات مفاجئة، تضمنت تعهدًا للمشغلين بأن تقوم الدولة بتعويضهم بسخاء شريطة عدم استغلال الأزمة لإقالة موظفين. الموظفون الأجيرون بدأوا بتلقي مستحقات البطالة كاملةً، كما والتزمت الحكومة باتخاذ إجراءات إضافية للحد من أبعاد وإسقاطات الأزمة الاقتصادية. تتلخص المشكلة الرئيسية في اليونان بالتقليص الخطير في الخدمات العامة، عقب أكثر من عشر سنوات تقشف لا إنساني وخصخصة فُرِضت على الدولة كشرط للنجاة من الأزمة. غير أن اليونانيين، يشمل من هم أقلّ ميولًا لليسار، لم يتنازلوا أبدًا عن مبدأ دولة الرفاه، ومسؤولية الدولة تجاه المواطنين هي بمثابة مبدأ مفهوم ضمنًا ولا خلاف عليه، ذلك رغم اليأس العميق من السياسة عمومًا ومن السياسيين اليونانيين على وجه الخصوص.

يصعب في الواقع التطرق لجونسون في سياق الحديث عن السياسات. فهو يغير مسارات، يتفوه بالترهات ويبدل مواقف بين اللحظة واللحظة، ومع ذلك، سرعان ما تبين أن حكومته تتّبع إجراءات جدّية وبعيدة المدى لدعم المتضررين من الأزمة.

بين هذه الإجراءات يمكننا أن نجد الدعم الاقتصادي للعمّال المرضى وذويهم: الحق بالخروج لإجازة مرضيّة من المشغل منذ اليوم الأول بدل الرابع كما هو متّبع هناك. الموظفون الذين لا يتمتعون بحق الخروج لإجازة مرضيّة من مكان عملهم، قد يكون بإمكانهم تلقّي مخصّصات من الدولة (مثل فقدان القدرة على العمل / العجز) منذ اليوم الأول بدل الثامن. وللعمال الذين يقبعون بحجرٍ بيتي ولا يمكنهم إنجاز عملهم من البيت، مُنِح استحقاق لتلقي دفعات مرضيّة.

العمال المستقلون والموظفون الذين فقدوا مكان عملهم حظوا بدعمٍ ماديٍ شمل: رفع مخصصات ضمان الدخل بألف جنيهًا إسترلينيًا لل-١٢ شهرًا القادمين. كما وأتيحت الإمكانية للعمال الذين تراجع دخلهم لتلقّي استكمال دخل من جهاز الرفاه الاجتماعي؛ زيادة الائتمان الضريبي الأساسي؛ إتاحة المجال للموظفين الذين تمّ تسريحهم لإجازات غير مدفوعة الأجر لتلقّي ٨٠% من رواتبهم حتى سقف ٢،٥٠٠ جنيه إسترليني بالشهر الواحد، وقد يكون بإمكان المستقلون ذوي الدخل المتوسط لغاية ٥٠ ألف جنيه إسترليني الحصول على منحة تعادل ٨٠% من أرباحهم لمدة ثلاثة شهورٍ على الأقلّ. دخلت هذه الخطة إلى حيز التنفيذ في شهر حزيران الفائت، وحتى ذلك الحين تلقّى المستقلون ضمان دخل بقدر مستحقات الإجازة المرضيّة التي تُدفَع للأجيرين.

مساندة الشركات بملاءمة أوقات عملها والحفاظ على الوظائف القائمة: بإمكان الشركات والمنظمات التي واجهت صعاب تلقّي مِنحًا من الحكومة لتمويل ٨٠% من رواتب الموظفين الذين لم تتمّ إقالتهم ولكنهم لا يعملون حقًا بسبب أزمة الكورونا، حتى سقف ٢،٥٠٠ جنيهًا إسترلينيًا في الشهر.

تقديم دعم مادّي للشركات التي تضررت من قلة الطلب: تعرض الحكومة على الشركات التي تضررت اقتصاديًا من الأوضاع عدة آليات دعم، تشمل تأجيل دفع ضريبة القيمة الإضافية؛ تمويل حكومي للإجازات المرضيّة لأربعة عشر يومًا للشركات التي تشغّل حتى ٢٠٠ موظفًا؛ قروض خاصة للمشغّلين؛ إلغاء الضرائب المحلّية للمصالح الصغيرة يشمل ذلك قطاع السياحة لمدة عام؛ تقديم منحة مالية لمصالح صغيرة بقيمة ٣،٠٠٠ جنيهً إسترلينيًا.

دعم العمال معدومي الأمان الاقتصادي للبقاء في بيوتهم: تم تطبيق عدة آليات سياسية، شملت تأجيل دفعات القروض الإسكانية وتعليق إخلاء سكان بالإيجار في المساكن العامة أو بسوق العقارات الخاص.

يمكن التخمين أنه لو أتى أحدهم قبل عامين لجونسون وقادة حزبه وأخبرهم بأن هذا ما سوف يفعلونه بحلول عام ٢٠٢٠، لصُعِقوا. على أي حال، الامتحان الكبير لا يزال أمامهم. بحال لم يستثمروا بعد مرور الوباء ملياردات بالجهاز الصحي العام، يضيفوا المزيد من الوظائف، يزيدوا عدد الأسرّة ويتجهّزوا بوحدات عناية مكثّفة في كافة أنحاء البلاد، سيعود الحال إلى سابق عهده. في الشهور الماضية قبعت المشافي في مدن بريطانيا تحت عبء كبير في حالةٍ من فوضى عارمة، ذلك رغم استدعاء طلاب الطب والأطباء المتقاعدين للعمل بشكلٍ مستعجَل وطارئ. سيتيعيّن على فرنسا إعادة حساباتها، وسيُطلَب من "رئيسها الاشتراكي" إثبات كونه حقًا كذلك. واليونان؟ لم يتبقَّ لليونان إلا التمني لها بالنجاح في البقاء هذه المرة أيضًا. هي تملك اليوم معارضةً يساريةً قويّة. ولكن أيضًا تاريخًا سياسيًا واقتصاديًا قاسيًا.